المحاولة الأولى

استقر على حافة المبنى لا يعنيه شيئا وغير عابىء بنظرات من حالفهم الحظ وتنبهوا لجلوس كائن أهوج على سطح الطابق الأخير تتأرجح قدماه على الاطار المذهب الذى طوق الحافة بشموخ مما أعطاها طابع مهيب، يصلح أن يكون تحفة معمارية وليس منفضة لأعقاب سجائره التى تجاوزت العشر

لم يعد الاقتراب من الموت يثير هلعه ، بل ربما يجعله يرى بوضوح قيمة الحياة التى تضاءلت بسبب اضافة القيمة على أبخس الأشياء فى هذا الزمن .. كان هناك دخانا متصاعدا من كوب  صار رفيقه الوحيد مؤخرا

اطاحه بحافة يده فى حركة سريعة مفاجئة ونظرا لطول المسافة  التى قطعها ليرتطم بالأرض ، نسى أنه كان رفيقه حيث تداخل دوى رحيله مع أصوات الشارع المتخم أثيره  بأبواق سيارات لمن كان على عجل ليقترف اثما أو ليجنى دقائق استرخاء من ماكينة العمل الوحشية أو لمن يريد اللحاق باللاشىء

نعم هناك من أضحوا يعدون اللاشىء هو أمر يستحق التدافع والانكلاب عليه ليحظوا به ويخففوا بعضا  من تعاستهم

أما هو .. فلم يعد يحتاج رفيقا ولا مالا ولا حتى أن يعيد اكتشاف نفسه

يريد أن ينقذه أحدهم بدليل ،  أن للحياة معنى اّخر ..

 بدلا من تلك المرارة الملتصقة بسقف حلقه ويستطعمها كلما زاد يقينه أنها بلا معنى

ربما ادراك ذلك صار أمرا مستهلكا تلوكه ألسن من افترسته تلك الحياة بأنيابها ومن تقلب فى نعيمها دون مشقة ، كلاهما على السواء

كل جيل جاء  كان يطمح الى اكتشاف ما يثبت خطأ ذلك الموروث

لكن هؤلاء البلهاء كانوا يسرعون فقط من وتيرة الوصول بنا الى المنتهى

حتى لم يبقى أهدافا نبيلة تستحق البقاء من أجلها والدفاع عنها .. بنفس متأججة وعقل شغوف

نظر اليها وهى ترمقه بنظرات عابثة.. سلعة من لحم ودم تعلن عن سلعة من مركبات كيميائية باهظة الثمن داخل اطار اعلانى علا المبنى المواجة له   .. لا يعلم أيهما ذو ثمن وأيهما يمكن الاستغناء عنه

الفتاة أم العطر ؟

ربما كلاهما سينزوى ولن يبقى سوى بشر متخبطين بائسين ، ضمرت أوتار انسانيتهم امام الاعتداء المتواصل عليها من كل صوب

حتى تلك الصورة لهذه الفتاة ذات النظرة العابثة لن تلفت انتباه أحد

يستطيع الجزم أن لا أحد سيحاول انقاذه اذا ما حاول القفز الاّن .. تبخر هذا الاحساس باللهفة على انقاذ روح  ، فالكل صار يمتلك نفسا منتكسة وخامدة لا تستطيع حتى انقاذ ذاتها وربما  سيجدون فى رؤيته يتهاوى من هذا الارتفاع الشاهق سلوى لهم عن أرواحهم المعذبة والمعلقة ما بين واقع قبيح ، وخوف من مقايضته برحيل لن يجدون فيه هنائا ،  بل شقاء الحساب على ما أزهقته أيديهم من فرص التنعم بسلام نفيس.. استبدلوه باللهاث وراء سراب

لماذا صار كل شىء عاجزا عن اشباع البشر أو مداواتهم ، وانحط قدر تلك التفاصيل الصغيرة  التى كانت تبدد قسوة الحياة فى زمن ماض

من يمكنه التشبث بالحياة فى عالم مماثل ؟

 عالم صار الناس يلجأون فيه الى حواف المبانى ليشعروا بالموت حتى يدركوا قيمة الحياة

وصار العلماء متلهفين لاكتشاف عالم الموت ليس بغرض اكتشاف علمى ، قدر رغبتهم فى الخروج منه بشيء قد يلهم البشر من جديد ويخفف من ركود الواقع

لم يعد فى الحياة ما قد يكتشف  ، امتصت كل عصارات البهجة والبؤس على السواء وبرزت الحاجة لاكتشاف عالم جديد بملامح مختلفة ، يحده أمل منهك متردد يخشى أن لا يجد له حيزا فى تلك النسخة

 

صراخها اقتحم انفصاله التام عن العالم فى هذه اللحظة …

رغم أنه بدا صراخا هيستيريا مبالغ فيه ويتعارض الى حد كبير مع هيئتها التى تعكس هدوئا ،وقدرة على انتقاء الاشخاص اللذين ترافقهم

لكن الاحتكاك والدفع لها من جانب هذا الشاب يعنى أنها وقعت فى فخ لم يفلح ذكائها فى استيعابه سوى الاّن..  التف حول الاثنان عدد بسيط من المارة بينما ترك مجلسه وهو يراقبهم متخذا وضعية الوقوف

فصارت قدماه تحتل نصف حافة السور والنصف الأخر مذبذب بين التراجع للخلف أو السقوط الى العدم

حاول اغماض عيناه وتجاهل ما يحدث ، لديه ما يكفى لصك اّذانه عن اخفاقات الاّخريين فى حياتهم

لكن صراخها كان يعلو ، وكأنها تجبره على الانسحاب من هذه اللحظة التى شعر فيها بالتسامى عن كل ما مر به وكل ما طفى على العالم من ترهات

ما أجبره على فتح عيناه لم يكن اشتداد الصراخ  ، ولكن امتزاجه باسمه

أحقا كان ما سمع هو اسمه ؟

أم أن أمواج الهواء وذبذبات الأصوات المتناثرة على امتداد الميدان قد أوهمت أذناه أن تلك المرأة تستنجد به على وجه الخصوص ؟

هى لم تعد جزءا من العالم الذى لفظه كليا لحظة صعوده لقمة هذا المبنى ، لكن أضحت فجأة جزءا من من التجربة التى يحياها الأن .. تجربة تقييم الحد الفاصل بين الموت والنجاة بارادته الحرة ودون تدخل من أى مؤثر

 قبل أن يرخى جفناه محاولا عزل نفسه مرة أخرى عن العالم المادى ،  شقت رصاصة السكون الذى استحال وجوده بعد هذا التطور

نظر لموقع الأحداث ..

 وجد الفتاة أرضا و تتمدد حولها بقعة محدودة من الدماء ، بينما لمح الشاب الذى كان يشتبك معها منذ دقائق يهرول ويختفى عن الأنظار فى أول انعطاف للطريق

صار الجمع ساكنا .. تجمد الكل  فى موقعه وهرول ضعاف الجأش وأصحاب سجلات سابقة داخل أقسام الشرطة بعيدا .. فوجودهم بالقرب من موقع جريمة مماثلة يجعلهم كبش فداء حتى يصل المحققون الى ذلك الشبح الذى ذاب فى دهاليز المدينة العريقة

تأخر رجال الأمن فى الظهور بينما بقى هو يراقب المشهد بصمت.. ربما كان ثملا بسبب انخفاض الضغط الجوى ونقص الأكسجين أو بسبب برمجته للعقل على عزل نفسه والتجمد تجاه ما يحدث حوله

أم هو شعورا قويا بالذنب اعتراه بسبب تجاهله لنداءات تلك الفتاة قبل أن ينال منها  رفيق السوء هذا .. أو لعله عدم يقين ان كان ما سمع حقيقيا أم أوهام وهلاوس جسورة ، مهد لها الطريق وضعه الواهن  ؟

كيف كان المحك فى انقاذها أو بقائه على عرشه  ،هو ان كانت نادت باسمه أم لا ؟!

بل السؤال هو

أكانت ترغب فى أن ينقذها ..  أم كانت تحاول هى انقاذه دون قصد ؟

كانت تلك هى الأفكار التى انهمرت كمطر ثقيل على ساحة ذهنه المخلخل وهو يهرع الى أسفل البناية ، حتى انه لم يستقل المصعد ولم ينتبه لنزوله 15 طابقا وهو يهرول الا بعدما استشعر تلاحقا فى أنفاسه التى أحاطت وجهه بالبخار نظرا لانخفاض درجة الحرارة

اخترق الدائرة الجديدة التى بقت حول الفتاة من الفضوليين وأنقياء السريرة وسمع قبل أن يطالع وجهها صافرات سيارات الأمن على وشك الوصول

كانت مغمضة العينين .. لكن بمجرد أن اقترب منها وجدها تفتحهما بتثاقل ، وتحسس بأناملها على موضع الرصاصة التى استقرت فى موقعا قد يقترب أو يبتعد عن القلب بسنتيمترات قليلة .. وحده الخالق يعلم هذا

ابتسمت له وان وشت عيناها بعتاب زال عندما أغلقت عيناها مرة أخرى مجبرة ..بعد أن هزم كم الدماء المهدر من جسدها قدرة العقل على البقاء يقظا أو احتمال الألم

شعر بالبرودة تتسرب اليه تدريجيا عندما انفض الجمع وتجمهروا فى دائرة مشتتة ذات محيط أوسع واستنتج من هذا أن الشرطة بدأت  تطوق الحيز الذى وقعت به الجريمة ، ثم وجد يدا تسحبه بهدوء بعيدا عن الفتاة ليصطدم بوجه طبيب .. أدرك  ذلك من الصليب الأحمر المطبوع على بطاقة مستقرة بالقرب من جيب معطفه و عليها حروف متراصة لم يكترث بقرائتها

ظل بالقرب يحاول أن يستنتج من انفعالات وجه الرجل وهو يفحصها ،  اذا ما كان الله قد أراد لها أن تنجو من تلك النهاية غير العادلة أم لا

لكن فردا من الأمن اقتاده بعيدا وهو يحاصره بحفنة من الأسئلة لم يسمع منها شيئا ، لكنه أخرج بعض كلمات ليطمئنه أنه ليس القاتل بل مجرد صديق ( ليضمن البقاء معها ) ، وقد رأى الحادث مثل الجميع ومستعد لأى استجواب لكن بعد أن يطمئن عليها

………..

( ما الذى دفعك لانهاء حياتك بهذا الشكل الفج ؟ )

صوتها كان متقطع النبرات خفيض ، يتناسب مع أثر الطلقة التى استقرت قرب مضخة الدماء بالجسد الذى كان مستلقيا على سرير معدنى مرتفع  ، تحوطه أجهزة وسوائل تعوض ما فقد  .. التفت اليها بسرعة تاركا المشهد الذى كان يتأمله عبر النافذة

غرفتها بالمشفى كانت بنفس مستوى ارتفاع المبنى الذى كان سيشهد منذ ساعات ختاما دراماتيكيا لحياته ، وكأن الحدث يكرر نفسه لكن بملابسات مختلفة

اقترب منها وتطلع الى عيناها التى زادت نقاء وبريقا بعد تلك الهزة التى حدثت لأجهزتها الحيوية

( لقد ناديتنى باسمى .. أليس كذلك ؟!)

( هل فعلت ؟! )

لم يدرى ان كانت السخرية أم الدهشة من خالطت نبرتها وهى تسأل

تطلع الى عيناها بعمق

( اذا أردت ان تنهى حياتك انتقاما من واقع مادى قبيح ، فاجعل تلك النهاية ملهمة قدر الامكان والا ستصبح عضوا مشاركا فى مسرح الحياة الهزلى الذى ينال عليه الجميع جوائز وهمية لأدائهم المفتعل )

( من ذلك الشخص الذى أصابك وهرب ؟ )

( لماذا لم تهرع الى عندما شهدت اشتباكنا سويا ؟ )

صمت للحظات وهو يتجه الى أقرب مقعد اليها ليجلس عليه  ويتأمل تفاصيلها أكثر ، على الرغم أن الحديث به لهجة احتداد واضحة تدفع الى الابتعاد

( اّسف )

(لا تعتذر ، لقد فعلنا هذا من أجلك … )

صدمته العبارة وانعقد لسانه للحظات .. رغم أن هناك شيئا مشابها لما قالته قد نمى داخل جدران عقله الباطن لكنه فضل ابعاده ، ظنا أنه قد أصبح يرتاب فى أى شىء لدرجة المرض !

( من أجلى ؟ )

كان ينظر لها فى هدوء لكن عيناه فضحتا حجم الصراع الذى يحويه جسده الاّن

صراع بين رغبته فى أن يعرف  ، وبين عدم اكتراث اعتاد ان يبديه تجاه كل شىء حوله

 ( نعم ، تابعناك منذ لحظة دخولك للمبنى وعندما وصلت لقمته.. ارتديت أنا ساترا من الرصاص بينما استخدم صديقى مسدسا كان يمتلكه و ممتلىء بطلقات فارغة تحدث أثرا محدودا فى الجسد عند ارتطامها به..  لكن الأمور لم تجرى كما أردنا واخترقت الرصاصة المنطقة التى تصل العنق بالكتف )

شعر وهو يسمع ما تقول أنه لازال هناك على تلك الحافة يتأرجح كيانه بين حضور وغياب .. هل هو هنا بالفعل داخل جدران غرفة تستلقى بداخلها فتاة غريبة الأطوار تؤنبه كالطفل على مشهدا لا تدرى شيئا عما عانى قبله ؟!

( كان يمكنكما منعى بأن تصعدا … )

( لتسريع وتيرة المشهد فنصبح القشة التى قصمت تشبثك بالحياة لمزيد من الوقت .. بالطبع  لا  )

نظر لها بدهشة من هذا الاختراق الشرس لحياته الخاصة وقراراته

( من أنتى ؟ )

( أنا أريد ابلاغك أننا نمتلك ما هو أرقى من مجرد القاء أبداننا من مبنى مرتفع  .. أنت لم تتدخل لمنع تهجم صديقى علىّ،  ليس لأنك فى لحظة مقدسة من دوران روحك فى فلكها  لكن لأنك تلمست فى المشهد ابتذالا لا يسترعى انتباهك ، ثم هرعت الى بمجرد دخول عنصر حقيقى الى الصورة .. دمائى )

صوتها تدرج فى الانخفاض حتى وصل الى مستوى الهمس .. توحد معها ومع وهنها وكأنها صوتا داخليا يواجهه ويسبر أغوار نفسه التائهة

( ولهذا أيضا لم يهتم أحدا بالصعود واثنائك عن ما تفعل .. انه الابتذال يا صديقى )

( لماذا أنقذتنى اذا ان كنتى ترى فى ما افعله ابتذالا ؟ )

( أنا لم أفعل ،  ما أنقذك هو غياب العالم المادى بأدواته المصطنعة عنى وعنك  ، عندما خرج المشهد الذى أعددناه عن اطاره المرسوم ..  وعندما شعرت أن دمائى دليلا على صدق ما تراه من موقعك )

توافدت أنفاس غريبة على لقائهم الهادىء فتلاشت الفقاعة الحالمة التى كانت تضمهما سويا ، كانوا زائرين من الأهل والأصدقاء

انسحب بهدوء وهو يسترق النظر اليها مغادرا الغرفة ..

وعائدا الى الواقع .c9d87a1ea8a1e79c7f762a62e4c4545b

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *